فلسفة كانط الأخلاقية
-1-
مفهوم الحرية وتأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
في نقد العقل المحض النظري قام إيمانويل كانط بإثارة السؤال عن إمكانية قيام العلم . بمعنى : كيف تكون المعرفة العلمية - التي تتمتع بطابعيْ الضرورة والكلية – ممكنة . والضرورة تعني صحة تطبيق القوانين العلمية على جميع الظواهر بصرف النظر عن تغير الأمكنة والأزمنة , والكلية هو شمول القانون لجميع الظواهر بلا استثناء . فقانون السببية – مثلا – لا بد أن ينطبق على كل الظواهر التجريبية ؛ فكل ظاهرة لها سبب . وهذا هو الشمول , وفي الوقت ذاته لا بد أن ينطبق على الظواهر في كل زمان وكل مكان . فحتى بعد مليون سنة سيكون للظاهرة سبب !
كان ديفيد هيوم قد أكَّد أن صفتي الضرورة والكلية لا يمكن أن نستدل عليهما من التجربة ؛ لأن التجربة الحسية لا تقدم لنا إلا الجزئي والمتغير . وبما أن هيوم فيلسوف حسي ؛ أي يؤمن بأن مصدر المعرفة الوحيد هو الحس فقد فتح الباب على مصراعيه للنزعات الريبية التي تشكك في " إمكان " قيام علم ضروري ويقيني .
فجاء كانط وأخذ ملاحظة هيوم على مأخذ الجد , فقرر معه أن التجربة لا تمدنا بالضرورة والكلية , ولكن كانط ليس حسياً , فهو يؤمن بدور العقل البشري في تركيب وتأسيس العلوم . وعليه فإن في العقل البشري تصورات تتمتع بالطابع الكلي والضروري . وهذه التصورات الضرورية والكلية القبلية – أي السابقة على التجربة - هي التي تجعل قيام العلم الطبيعي الموضوعي ممكناً .
هنا نجد أن العقل البشري المحض يسهم بدور كبير في إنتاج المعرفة التجريبية . يرى كانط أننا لا نعرف عن الأشياء إلا ما يظهر منها لعقولنا . ومعنى هذا أن ثمة قطاعاً وجودياً هاماً يظل غائباً عن إدراكنا , وهو ما يسميه الشيء في ذاته أو ( النومين ) ؛ فهو كل ما لا يظهر ظهوراً حسياً , وأما الأشياء التي تظهر لنا ظهوراً حسياً في الزمان والمكان والتي تدخل إلى قوالبنا وتصوراتنا العقلية المحضة فترتبها وتنظمها وتنشئ منها معرفة , فيسميها الظواهر أو ( الفينومين ) . إنني أعرف مثلاً أن " التفاحة " ظاهرة ؛ لأنها تظهر أمام إدراكي الحسي ؛ فيصل إليه منها لونها وحجمها وملمسها وطعمها واستدارتها , ولكن هل التفاحة هي كل هذه الصفات أو الآثار الحسية ؟! برأي كانط , كلا . فهناك حاملٌ يحمل هذه الصفات هو ما نسميه في لغتنا بالتفاحة . كان جورج بيركلي يقول إننا لو نزعنا اللون والطعم والاستدارة ونعومة الملمس عن التفاحة فلن يبقى لدينا شيء ! . ولكن كانط يصر على أن ثمة شيئاً يبقى ؛ فنحن لن تستطيع أن نصنع تفاحة من مجرد جمع هذه الصفات الحسية المتباينة , فثمة شيء جوهري لا نعرفه إطلاقاً . هذا الشيء هو النومين أو الشيء في ذاته , وأما الصفات الحسية فهي الشيء كما يظهر لنا أو الفينومين .
هذه الإلماحة السريعة حول نقد العقل النظري مهمة جداً لكي نستوعب فلسفة الأخلاق عند كانط أو فلسفة العقل العملي .
لقد عرفنا أن العالم منقسم إلى قسمين هما عالم الظواهر التجريبية وعالم الأشياء في ذاتها والتي لا تخضع لقوالب العقل وتصوراته وقوانينه كالزمان والمكان والعلية ( السببية ) وغيرها من المقولات . فالعلية مثلاً تحكم عالم الظواهر بشكل حتمي لا مجال فيه للاستثناء , أي لا مجال فيه للحرية . وجسم الإنسان ظاهرة كغيرها من الظواهر , وينطبق عليه قانون العلية وقوانين العقل النظري الذي يجعل التجربة ممكنة . فكل فعل نقوم به وكل سلوك نسلكه يظل بوصفه سلوكاً تجريبياً خاضعاً لقوانين الطبيعة . هل هي جبرية إذن ؟ أين الحرية ؟ هل كل شيء محكوم بقوانين الطبيعة حتى أجسادنا التي نشعر بأنها ملك لنا ؟ وأين الأخلاق التي لا قيمة لها بدون حرية ؟
هل هناك أخلاق ؟ نعم . يقول كانط . فالناس منذ وجدوا لهم أخلاق , ويجب علينا أن نفحص عن هذه الأخلاق لكي نستدل منها على أننا أحرار . إن الأخلاق الإنسانية ( التي يسميها كانط بالشعبية ) قائمة على الأمر والنهي . ولو لم نكن أحراراً في القيام بهذا الفعل أو تركه لما كان للأمر والنهي ( الأخلاق ) أي معنى ! . أجل , إنني أشعر في ذاتي بقدرتي على القيام بهذا العمل أو ذاك أو عدم القيام به , وهذا دليل على أنني حر . ولو كنا مبرمجين على أن نسلك مسالك معينة وأن نفعل أفعالاً معينة فلن يكون للأوامر والنواهي والقيم وبالتالي الأخلاق أي وجود .
لقد توصل كانط من هذا التحليل إلى أن الحرية هي شرط وجود الأخلاق , أي إننا ننصاع للأخلاق لأننا في الحقيقة أحرار . فالأخلاق وإن كانت سبب معرفتنا بالحرية , إلا أن الحرية هي سبب وجود الأخلاق .
يمكن القول إن وجود القوانين الأخلاقية التي تعين الإرادة الإنسانية وتحددها وتوجهها نحو هذا الفعل أو ذاك – أقول إن وجود هذه القوانين ليس نابعاً من عالم الظواهر أو التجربة لأننا عرفنا في مستهل المقال أن عالم الظواهر محكوم بالقوانين الطبيعية الحتمية التي لا يسمح فيها بأي استثناء , أي لا يسمح فيها بالحرية التي هي الشرط الضروري للقوانين الأخلاقية . ولنا أن نسأل : كيف نبرر الحرية ؟ أو كيف نعرفها ؟ أو كيف تكون ممكنة مادام كل العالم محكوما بالحتمية ؟ يفسر كانط إيماننا بالحرية بإعطاء الحرية معنًى غير مألوف : فالحرية عنده هي العلة التلقائية التي ليس لها علة . أي إنها المبادرة الأولى والسبب الأول الذي لا يسبقه سبب , والتي بالمقابل ينتج عنها معلولات . ومادام كانط قد سلَّم بأن الفينومين أو عالم التجربة هو ( صادر ) عن عالم الأشياء في ذاتها أو النومين , والتي لا نعرف عنها شيئاً لأنها غير مكانية وغير زمانية ولا تخضع للعلية الطبيعية , أقول مادام قد سلم بذلك فإنه لم يجد تناقضاً – كما يقول محمود فهمي زيدان – في أن يعتبر النومين هو العلة الأولى أو السبب الأول الذي لا يسبقه سبب , أي العلة التلقائية غير المشروطة , وبعبارة أوضح : هو الحرية . فالنومين هو الطرف الأول الذي انطلقت منه سلسلة الأسباب . ومادام الأمر كذلك فإننا إذا عرفنا أن ذواتنا تنقسم إلى قسمين : أنا ظاهرية تجريبية خاضعة لقوانين الطبيعة , وأنا متعالية نومينية غير خاضعة للطبيعة , عرفنا أن الأخيرة هي في صميمها حرية . فأنا – مثلاً - أريد بكل حرية أن أرفعَ هذا الكأس وأدنو به إلى فمي . لدي الآن موقفان : الإرادة الحرة , أي العلة الأولى التلقائية التي بدأت للتو , والسلوك المادي الذي يتجلى في رفعي ليدي وأخذي للكأس . إن الموقف المادي ( السلوك الظاهري ) خاضع لقوانين الطبيعة , كالجاذبية والعلية وغيرها , ولكن إرادتي حرة تماماً لأنها السبب الأول والتلقائي لهذا السلوك . يقول كانط في نقد العقل العملي " إن الإنسان نومين بوصفه حاملاً للحرية , وفينومين بوصفه خاضعاً للطبيعة " . أنا حر , إذن فأنا كائن أخلاقي . هل هذا يكفي ؟ كلا . فنحن نعرف أن كثيراً من الإرادات البشرية قد يعيّنها ويحددها الشر أو توجهها اللذة غير المبالية بالخير . فما العمل ؟ يعود كانط ويبحث في العقل المحض عن قانون أخلاقي أو أمر مطلق يكون قاعدة تهتدي بها الإرادة الخيرة . وهذا الأمر له الصيغة التالية " لا تفعل الفعل إلا بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في الوقت نفسه من أن تريد لها أن تصبح قانوناً عاماً " . وبصياغة أخرى يمكن أن نقول : حينما تريد أن تتحقق من أن فعلك صادر عن القانون الأخلاقي , فاسأل نفسك : هل تريد أن يصبح عملك هذا قانونا للبشر جميعا ؟
فلو مثلاً فكر أحدٌ في ألا يرد الأمانة , وسأل نفسه هذا السؤال : هل يمكن أن نجعل عدم رد الأمانة قانونا عاما للبشر يهتدون به في سلوكهم ؟ . بالتأكيد لا . لأننا لو تعاملنا بهذه القاعدة لما وثق أحدٌ بأحد ولما كانت هناك أمانة لكي ( لا نردها ) ! . أي إن هذه القاعدة تناقض ذاتها بذاتها , وتهدم نفسها بنفسها . فهي إذن ليست كلية ولا ضرورية ( ولا عقلانية ) , وبالتالي لم تصدر عن الواجب الأخلاقي المطلق .
- 2-
نقد مفهوم الحرية عند كانط
الحرية أصل الشر
إذا كانت الحرية نابعة من عالم الأشياء في ذاتها – ومن ضمنها الأنا المتعالية < النفس المعقولة > - وإذا كان معنى الحرية في إطار الأنا يحمل معنى المبادرة التلقائية العفوية غير المشروطة , أي إن فعل الإرادة يفاجئ القوانين الحتمية ولا يحفل بها ... فلماذا كفَّ النومين ( بوصفه سبباً مطلقاً للفينومين ) عن المبادرة التلقائية ؟
لماذا كان سببا أولَ ثابتاً , بينما هو في مجال الإرادة الإنسانية سبباً أولَ تلقائياً ( متغيراً ) أو متنوعاً في تمظهره في المسلمات الذاتية التي تعيِّن الإرادة ؟!
أنا الآن لا أتحدثُ عن إرادة الخير فحسب , فإرادة الشر هي بالضرورة مما ينطبق عليه وصف الأولى , أقصد إن لها حرية المبادرة .
يرى كانط إن الشر – وإلَّمْ يسمِه بهذا الاسم - نابع من – ليس الإرادة الخيرة – بل من الرغبة أو من الحساسية بصورة عامة . فالعقل لا ينبع منه إلا الواجب الأخلاقي الخيِّر . فما هو الموقف ( الحسي ) الذي يكون فيه الفعل الإنساني شراً ؟
نحن نعرف أن الحساسية محكومة بالقوانين الحتمية , فكيف تسنى للشر أن ينطوي على إمكانية الهدم , أو نقض القواعد والقوانين ؟
إن إمكانية الهدم – برأيي – داخلة في إطار الحرية . فكما أننا أحرار في فعل الخير , فنحن أحرار في فعل الشر . وإذن فالحرية شرط للشر كما هي شرط للخير .
لماذا كانت الرغبة مصدراً محتملاً للشر , بينما الإرادة الخيرة مصدراً للخير فحسب ؟
حينما , مثلاً , أرغب (= أي : أريد بإرادة لا تكون صادرة عن الواجب ) , في أن أكذبَ , وحتى لو لم أرِد لمسلمتي هذه أن تكون قانونا عاما للناس , فمن أين جاءت هذه الرغبة ؟ إن الشر عند كانط هو ما يخالف الأمر الأخلاقي المطلق . فمن أي الجهات يخالفه ؟
عرفنا منه أن القاعدة الأخلاقية تحمي ذاتها من التناقض , أي لا تهدم نفسها بنفسها , فالشر هو بالتعريف خلاف الخير . ومادامت إمكانية الهدم لا يمكن أن تتحقق في عالم الظواهر بوصفه منسوجاً بشكل محكم ومتين لا يسمح باستثناء , فهي – أي إمكانية الهدم أو الشر – ذات طابع أنطولوجي قوي . لأنها بالضرورة لن تكون تجريبية , كما أنها لن تكون عملية محضة , فالعقل العملي المحض مصدر للخير فحسب ( فمقر التصورات الأخلاقية قائم في العقل بصورة قبلية ) كما يقول كانط في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق .
فماذا تكون إذن , ومن أين أتت ؟؟ هل هو من العدم المحض كما يقول بعض اللاهوتيين والأخلاقيين ؟!! أي هل الشر هو العدم ؟!!
بالمناسبة فكلمة ( شر ) شبه غائبة عن كتب كانط الأخلاقية !! فثمة الخير وثمة ما هو غير مطابق له . وحسب . كما أن كلمة ( عدم ) شبه غائبة بالمثل !!!
هل هرب كانط من هذه الإشكالية التي أرهقت فلاسفة الأخلاق والوجود أكثر من إشكالية الخير ذاته ؟!!
·إن التجربة محكومة بالقوانين الطبيعية الحتمية , والفعل الأخلاقي محكوم بالواجب أو الأمر المطلق . بينما الشر ليس محكوماً بأي قانون .
·الحرية في بعض معانيها التي لم ينتبه لها كانط ليست مجرد قانون أول أو علة أولى مطلقة , بل هي ( لا – قانون ) , أو علة نسبية متغيرة .
·نعم , إن القانون يقف في وجه حرية الإرادة , بصرف النظر عن كونها شريرة أو خيرة . وسنوضح هذا في آخر المقال .
·الحرية منبع الإرادة , الخيرة والشريرة على السواء :
1-الإرادة الخيرة ( محكومة ) بالأمر المطلق الذي هو أمرها ذاتها – كما يحب كانط أن يصور لنا ذلك ؛ أي إننا برأيه حينما نطيع القانون الأخلاقي النابع من عقولنا المحضة العملية فإننا نطيع أنفسنا وبالتالي فنحن أحرار في إطار القانون ( اللا – حرية ) !
2-الإرادة الشريرة , وهي حرة , ليست محكومة بأي أمر مطلق , بل بأوامر نسبية متغيرة تحددها لها الرغبات والمصالح والقوة .
3-النتيجة إذن , هي أن الإرادة الشريرة أكثر انسجاماً , من الإرادة الخيرة , مع مفهوم الحرية – حتى بالمعنى الكانطي ؛ أي بوصفها علة أولى – لماذا ؟
لأن إرادة الشر تحمل في طياتها تلقائية مستمرة ودائمة ليست موجودة في الإرادة الخيرة التي تخضع لصيغة أخلاقية صورية واحدة وثابتة .
هل هذا ما انتبه إليه شوبنهور ونيتشه ؟ أي إنهما رأيا أن إرادةً ليست عقلانية ( أي ليست خيرة ؛ "شريرة" بمعنى كانط ) هي التي تحكم الوجود ؛ سواء أكانت إرادة القوة أو إرادة الحياة العمياوتينِ .
خلاصة وتوضيح لنقطة سابقة :
قلنا إن القانون يقف في وجه حرية الإرادة .
فهل هو كذلك حينما يكون القانون هو قانوننا الذي نضعه نحن أو نستنبطه من عقولنا بكل تجرد ونزاهة ؟!
إنني حينَ أضع لنفسي شروطا وحدوداً فإنني أسلِّم مبدئياً بأنني منقسم إلى قمسين : قسم خير وقسم شرير أو عابث أو لاهٍ . وكلاهما من صميم ذاتي ( حتى ولو لم يكون الشر من صميم عقلي , فأنا لست مجرد عقل , بل جسد ورغبة وشهوة وقوة ) ...
أو لنقل بالأحرى : إن القانون العملي الأخلاقي يشطر ذاتي إلى شطرين : مطيع , وعاصٍ . الأول مصدر الخير , والثاني مصدر الشر . ولكي لا أعطي الشر – الآن – معنى أخلاقياً تقليدياً يجعل منه محلاً للإدانة والعقاب , أقول إن الشر هنا هو ما يمارس حريته بعيداً عن أي إملاءات , حتى ولو كانت إملاءات عقلي .
ولكن هل الخير نابع من عقلي أنا , أو من العقل الكلي لجميع الناس , والذي يوجد فيَّ منه نصيب ؟!
إنني بالعقل العملي الذي أفترض أنه عقلي لا أتميز عن الناس بشيء , وأظل محكوماً بالأوامر التي يصدرها ويأمر بها جميع الناس . ولكن عقلي الحقيقي ؛ عقلي أنا الذي يميزني من غيري من الناس فليست له اية قيمة أخلاقية عند كانط لأنه ينطوي , إضافة على إمكانية الخير , على الرغبة والاشتهاء ؛إنه الصورة المثلى للجسد , والجسد هو المضمون المثالي له ... وجدير بالذكر أن العقل الفردي أكثر حرية من العقل العملي المحض الكلياني .
فهل نقول إن الحرية مصدر الشر ؟
كلا . برأيي أن الحرية بحد ذاتها ليست مصدرا للخير ولا الشر , بل هي مبدأ للمبادرة والتلقائية المستمرة . وقيام كانط بتحليل الأخلاق انطلاقاً من مبدأ الحرية لا بد أن يعترضه السؤال التالي : إذا كانت الحرية مصدرا للخير كما هي مصدر للشر , فما قيمة الخير أو ما فرقه عن الشر , وكيف لا يختلطان ؟
سيقول كانط : إن قانون الخير لا يهدم نفسه . أي إن الفعل الخيِّر , وإن كان يبدأ من الحرية , إلا أنه يظل مطيعاً , محكوماً بالجبرية ( جبرية الواجب المطلق ) . بينما الشر لا يذعن إلا للحرية .
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire